رئيس التحرير : مشعل العريفي

الجهيمان .. سادن الأساطير .. حامل راية التنوير

تابعوا المرصد على Google News وعلى سناب شات Snapchat

صحيفة المرصد-الدكتورعبد الله المدني :هي شخصية حفرت اسمها في تاريخ الصحافة السعودية عموما، وصحافة شرق الوطن خصوصا، على غرار المرحومين يوسف الشيخ يعقوب صاحب «الفجر الجديد» وسعد البواردي صاحب «الإشعاع». إنه عبدالكريم بن عبدالعزيز الجهيمان، الشخصية الموهوبة التي كتبت البحث والمقال والقصيدة، وعملت في التعليم والقضاء والصحافة والطباعة والأدب والنقد وتأليف المقررات المدرسية. قاد الجهيمان الجهود التنويرية الأولى بدفاعه عن حق المرأة في التعليم، وتسخيره الصحافة للنقد البناء. وفي هذا السياق نستشهد بما كتبه الباحث عبدالله العبدالمحسن عنه في مجلة «القافلة» (سبتمبر/أكتوبر 2012) من أنه «علامة فارقة في الحياة السعودية. فقد كان رائدا حقيقيا من رواد الصحافة، وعمودا من أعمدة الكلمة، في الوقت الذي يقف فيه سادنا للأساطير، وحاملا لشعلة التنوير، ومدافعا عن حرية التعبير». تقول السيرة الذاتية للجهيمان، إنه ولد في 1912 ببلدة الغسلة الواقعة على بعد 5 كلم من شقراء، لأبوين منفصلين الأمر الذي تسبب في أن يعيش طفولته متنقلا بين بلدة والده وأعمامه (غسلة) وبلدة والدته وأخواله (الوقف) وكلتاهما في الوشم (إقليم تاريخي في نجد). عن طفولته والبيئة التي ترعرع فيها كتب إبراهيم الشتوي ما مفاده أن الجهيمان نشأ ما بين بلدتين لا يفصلهما إلا واد كبير اسمه العنبري، وتعتمد في معيشتها على الفلاحة وتربية الماشية، بينما قلة من أهلها تعتمد في حياتها على نقل الأحمال من مكان لآخر فسموا بـ «الجماميل». ويضيف الشتوي: «كان جده لوالده من كبار الفلاحين في غسلة، وعاش والده فترة من الزمن يعمل مع جده في الفلاحة ثم انفصل عنه ليعمل في الجمالة». كما يخبرنا «كان عمره عندما تزوجت أمه زواجها الثاني 3 أو 4 سنوات ــ وهي ابنة لأحد الفلاحين ــ تطعمه وتسقيه ثم تتركه في المنزل وحده، وتذهب مع رفيقاتها لجمع الحشائش من الصحراء أيام الربيع من أجل الحيوانات التي تخرج الماء من الآبار لري المزروعات. لذا كانت حياته في طفولته كلها حركة وحرية وانطلاق». أما تعليمه فقد بدأه في كتاتيب بلدته في سن السادسة، بلا كتاب أو ورق أو قلم، بل عن طريق صناعة «ألواح عريضة تنوب عن الأوراق مطلية بمادة جيرية يكتبون عليها، فإذا ما حفظوا ما عليها محوه وعادوا يطلونه بتلك المادة الجيرية من جديد»، طبقا لما كتبته الأكاديمية السعودية جنان التميمي في مجلة المجلة (19/2/2014). وفي 1925 انتقل الجهيمان وهو في سن 13 إلى الرياض للتعلم على يد بعض مشايخها، ثم سافر إلى الحجاز لمواصلة العلم على يد مشايخ الحرم المكي. بعد ذلك التحق في 1927 بالمعهد العلمي في مكة، الذي كان قد أنشأه الملك المؤسس كأول مدرسة حكومية نظامية في عهده، فقضى فيه ثلاث سنوات أهلته ليكون مدرسا. حياته العملية بدأت بالالتحاق بسلاح الهجانة، قبل أن يزاول مهنة التدريس في مدارس مكة، وفي المعهد العلمي، وفي مدرسة تحضير البعثات. وفي 1930 تولى إدارة أول مدرسة للبنين في بلدة السيح بمنطقة الخرج، وفي العام التالي استدعاه ولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز إلى الرياض، مكلفا إياه تدريس أبنائه. وفي السنوات التالية تولى الجهيمان أيضا تدريس أنجال الأمير عبدالله بن عبدالرحمن. وما بين هذا وذاك عمل الجهيمان أيضا في مجال القضاء في مكة والخرج، كما تولى إدارة التفتيش الإداري وإدارة التعليم الأهلي في وزارة المعارف. أبو سهيل متجهماً : نصف متدين يخرب الأديان قال الجهيمان في برنامج تلفزيوني عبارة بليغة لن تنسى هي «ثلاثة يخربون العالم: نصف نحوي يخرب اللسان، ونصف متدين يخرب الأديان، ونصف طبيب يخرب الأبدان». وتضيف التميمي (بتصرف): «الجهيمان يرى أن السير المتواصل وإن كان بطيئا فإنه يصل بك إلى أهدافك، بينما السرعة غير المتزنة وطرح الأفكار السابقة لأوانها، أو إلقاء الكلام على عواهنه دون تهيئة المجتمع لاستقباله قد تؤدي إلى عواقب سيئة، أو مخالفة تماما للمطلوب». وهذا يؤكد لنا أن الجهيمان لم يكن قط محسوبا على أي أيديولوجية سياسية يمينية أو يسارية، وإنما كان مثقفا عربيا مستنيرا، وداعية من دعاة النهضة والتقدم عبر خطاب هادئ غير مستفز ومتسق مع ظروف البيئة التي وجد نفسه فيها. لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك في شبابه المبكر، طبقا لما قاله عن نفسه في حوار له مع مجلة «أهلا وسهلا» (30/6/1995)، حيث اعترف أنه في أوائل شبابه لم يكن بذلك الهدوء والتوازن، بل كان شديد الحماس لمناصرة أي فكرة يؤمن بها سواء كانت دينية أم وطنية، وكان هذا الحماس يقوده في بعض الأحيان إلى مواقف محرجة مع بعض الجهات أو الشخصيات التي يكن لها الكثير من الحب والتقدير. ويقول إن الذي جره إلى ذلك أنه كان يؤمن بالفكرة التي تقول: «إذا أطعمت فأشبع وإذا ضربت فأوجع»، ويقول: «كما أنني أؤمن بفكرة أخرى مفادها أن على المرء إذا أراد أن يكون لكلامه تأثير، فإن عليه أن يكون قوله حارا جدا، أو باردا جدا. وليحذر أن يكون كلامه فاترا، فإنه إذا كان كذلك يمر على الآذان دون أن يشعر بفحواه أي إنسان». وعلى الرغم من كل ما سبق ذكره عن نضجه السياسي مع مرور الأيام وحرصه على عدم التصادم مع الآخر أو مع الجهات الرسمية فإنه أغضب السائد المجتمعي يوم أن نشر في «أخبار الظهران»، مقالات تدعو إلى تعليم البنات، الأمر الذي تسبب في إيقافه عن العمل الصحفي وإيقافه وإغلاق صحيفته. حيث إن تلك الدعوة كانت وقتذاك مخالفة للسائد من العادات والتقاليد في المملكة. وقد تجلت دعواته تلك في مقالين نشرهما في صحيفته دون أن ينسبهما لنفسه، كان أولهما في 1955 بعنوان «حلوا هذه المشكلة الاجتماعية»، وثانيهما في 1956 بعنوان «نصفنا الآخر». غير أن جنان التميمي تأخذ على الجهيمان أنه لم يكن ينادي بتعليم المرأة من باب أنه حق من حقوقها كالرجل، وإنما من باب متطلبات تربية الأبناء وإسعاد الأزواج، وبالتالي فهو لئن استحق لقبا «تقدميا» فإنه لا يمكن أن يوصف بالشخصية الليبرالية! بعد توقف صحيفته عن الصدور عاد الجهيمان للكتابة عبر صحيفة «اليمامة» أي عند زميل دراسته في المعهد العلمي ورفيقه في الأسفار الشيخ حمد الجاسر، بل كان يتولى إدارة «اليمامة» أثناء غياب الجاسر. كما كتب في صحيفة «القصيم»، متناولا أهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية بجرأة، ومطالبا بحماية المستهلك وتأسيس جمعيات لمساعدة الفلاح على تصريف إنتاجه وإنشاء وزارة للشؤون الاجتماعية. وطبقا لما كتبه القشعمي، فإن الجهيمان أصدر في 1961 كتابا بعنوان «دخان ولهب» ضمنه مقالاته التي نشرها في «أخبار الظهران»، مع توضيح منه حول فكرة الكتاب قال فيه: إنه جمع المقالات «لا لأنها تمثل أفكار كاتبها فحسب، ولكن لأنها تمثل أفكار الوسط الذي كان يعيش فيه، وتمثل أحاسيس أمتنا في ما كان يحيط بها من المشاكل وفي ما كان يساورها من تحفزات إلى حياة كريمة يعيش الجميع في ظلها حياة متعددة الجوانب، يجد فيها كل مواطن طريقا لحياة سعيدة، ومفيدة». خلاف «دخان ولهب»، أصدر الجهيمان مؤلفات أخرى مثل كتاب «رحلة مع الشمس»، الذي يحكي فيه قصة رحلته حول العالم التي بدأت من الرياض وانتهت بالبحرين، وكتاب «ذكريات باريس»، الذي تحدث فيه عن إقامته في باريس لمدة ستة أشهر في مطلع الستينيات وما رآه فيها من نظام ورقي ونظافة وانتشار للتعليم، وكتاب «رسائل لها تاريخ»، وديوان «خفقات قلب». غير أن أشهر أعماله تجسد في «موسوعة الأساطير الشعبية في شبه الجزيرة العربية»، المكون من 5 أجزاء، و«موسوعة الأمثال الشعبية»، المكون من 10 أجزاء. وعن هذين المؤلفين كتب عبدالله العبدالمحسن (مصدر سابق) قائلا: «إن قناعته الواعية بقيمة الموروث الشعبي التاريخية، ورؤيته الموضوعية تكشف لنا سر اهتمامه بين معاصريه من الرواد بهذا الموروث، وبذله الوقت والجهد لجمعه وتنقيحه، وإنفاقه السخي لنشره. تلتقي قناعته تلك، ورؤيته المتقدمة بنظرة كبار العلماء والمختصين في الدراسات الفولكلورية، بل وتتطابق. فالجهيمان يرى أن هذا الموروث: (أصدق من التاريخ المكتوب، وأدق في رسم الحياة الاجتماعية، وأقدر على تكوين صورة وافية، فلن نجد أدق وأصدق من الأمثال، التي هي زبدة تجارب تلك المجتمعات، ولا أقرب إلى الصدق من الأساطير، التي هي فضاء خياله الرحب وأفق تطلعاته)». من بعد رحلة عطاء طويلة، حصل خلالها على وسام الملك عبدالعزيز في مهرجان الجنادرية لعام 2001، ومن بعد سيرة حافلة تميزت بالإبداع مثلما تميزت بالتبرعات المالية السخية في سبيل الارتقاء بالأبحاث الجامعية، ومساعدة الطلبة المحتاجين على إتمام تعليمهم، وإنشاء المدارس، والتخفيف على المسنين والمعاقين، انتقل الجهيمان إلى جوار ربه بمدينة الرياض في الثاني من ديسمبر 2011. صحفي مستقل لا يجيد سوى الحقيقة حينما تولى الأمير طلال بن عبدالعزيز حقيبة المالية والاقتصاد الوطني، استدعى الجهيمان وكلفه بإصدار مجلة «المالية والاقتصاد»، وفي كل المهام والوظائف التي أنيطت به حرص الجهيمان أن يكون صوتا للحق، ونصيرا للتنوير، وناقدا لأداء القطاعات الحكومية، لا من موقع المعارض بل من موقع المواطن الطامح لخير وطنه ومواطنيه. لذا لم يكن غريبا أن يصفه الأديب عبدالفتاح أبومدين بأنه «شجاع وصادق وصريح لا يتملق». في الفترة التي قضاها مدرسا لأنجال الأمير عبدالله بن عبدالرحمن، ارتبط الجهيمان بعلاقة مع تلميذه الأمير يزيد بن عبدالله بن عبدالرحمن الذي اصطحبه معه في رحلة إلى مصر ولبنان وإيطاليا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا لمدة تقارب أربعة أعوام ما بين 1949 و1953. ويبدو أن تلك الرحلة وما شاهده فيها من عجائب وغرائب لم تألفه عيناه، جعلته يتوق إلى رحلات أخرى مشابهة، لذا قرر الاستقالة من أجل القيام بسياحة في مشيخات وإمارات الخليج العربي، وبينما كان مارا بالدمام في طريقه إلى تلك الإمارات حل ضيفا على صديقه عبدالله الملحوق مدير مكتب أمير المنطقة الشرقية وقتذاك «سعود بن عبدالله بن جلوي». وفي هذا السياق يخبرنا الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في كتابه «إعلام وأعلام ــ دراسات في الإعلام السعودي»، أن الملحوق كان آنذاك قد أسس مع آخرين مطبعة حديثة باسم «مطابع الخط»، فاقترح على ضيفه أن يتولى إدارتها، مؤكدا له أنهم قد أبرقوا إلى ولي العهد الأمير سعود بن عبدالعزيز لأخذ الإذن في إصدار جريدة بالمنطقة الشرقية سوف تطبع في تلك المطبعة. وافق الجهيمان على العرض، انطلاقا من إيمانه القوي بأن الصحافة هي الوسيلة الأسرع لنشر أفكار التنوير، وتشخيص مشكلات الوطن والمواطن من أجل معالجتها. وهكذا ظهرت أول جريدة صادرة من المنطقة الشرقية، في 26 ديسمبر 1954 تحت اسم جريدة «الظهران»، وتولى فيها الجهيمان منصب مدير التحرير بينما ذهبت رئاسة التحرير إلى الملحوق. وسرعان ما غادر الملحوق الدمام إلى بيروت ليعمل ملحقا بالسفارة السعودية هناك فآلت إدارة المطبعة ورئاسة تحرير الصحيفة إلى الجهيمان. لاحقا، وابتداء من عددها السابع، تم تغيير اسم الجريدة إلى «أخبار الظهران»، علما بأن الأعداد الأولى منها كانت تطبع في بيروت، لأن شركة مطابع الخط لم يكن لديها الاستعداد آنذاك لطباعة الصحف، فكانت مواد الصحيفة ترسل كاملة إلى بيروت لتطبع هناك، ثم صارت في وقت لاحق تصدر من الدمام كل نصف شهر مؤقتا. ويخبرنا محمد عبدالرزاق القشعمي في مقال له بمجلة الواحة (17/10/2007) أن «أخبار الظهران» ظلت طوال الفترة من عددها الأول وحتى عددها الأخير الرابع والأربعين الصادر في 29/4/1957 تصدر مرتين في الشهر وأحيانا أربع مرات، بأربع صفحات على مقاس 58X40 سنتيمترا، ويباع العدد بربع ريال، بينما كانت قيمة الاشتراك السنوي 12 ريالا. ويضيف القشعمي (بتصرف) «تولى سكرتارية تحرير الجريدة فترة من الزمن سعود العيسى، وصدرت الأعداد الأربعة الأولى منها دون افتتاحية، وفي العدد الخامس كتب في الزاوية اليمنى من الصفحة الأولى مقال بعنوان (هذه الصحيفة) بقلم الجهيمان جاء فيه (إننا نمد يدنا إلى قرائنا الكرام ونعاهدهم على تحقيق رغباتهم العادلة التي هي رغبات كل مواطن يشعر بواجبه نحو وطنه العزيز وحكومته ومواطنيه، ولكننا نحب أن لا يفوت قراءنا الكرام أن الطفرة محال وأن كل مشروع ــ لكل كائن حي ــ لا بد أن يمر بأطوار يفرضها عليه ناموس الكون وتحتمها عليه ظروف الحياة)». تقول جنان التميمي (مصدر سابق): إن الصحيفة في بداياتها «كانت ضعيفة هزيلة، ولكن النشأة العلمية التي نشأ عليها الجهيمان أكسبته ثقة بالنفس، وإقرارا بالقدرة على العمل والتقدم والنجاح، على الرغم من شح الموارد الثقافية وأمية المجتمع وبساطة الحياة. وصار يعنى بالموضوعات التي لها تأثير مباشر على الناس؛ فزاد اهتمام القراء بها، وبدأت تنمو وتكبر ويتسع توزيعها ويكثر قراؤها شيئا فشيئا». * استاذ العلاقات الدولية من مملكة البحرين

آخر تعليق

لا يوجد تعليقات

arrow up